
الوضع العام خلال القرن التاسع عشر
إبان القرن التاسع عشر عاشت القوى الأوروبية حالة من التنافس على المناطق الإستراتيجية من أجل تحقيق أهدافها فبريطانيا والتي تعد أكبر قوة إستعمارية أنذاك سعت لتأمين طريق إلى الهند و إلى مستعمراتها في آسيا الشرقية لتأكيد مقولة ” الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس ” وكذلك هولندا التي كان لها دور في المنطقة أما فرنسا أرادت مجابهة البريطانيين فتوجهت إلى القارة الأفريقية طمعا في ثرواتها الباطنية شأن إيطاليا وبلجيكا وإن كان دورهما قليل مقارنة مع فرنسا في حين أن روسيا سعت إلى السيطرة على أوروبا الشرقية بما فيها منطقة البلقان للوصول إلى بما يسمى بالمياه الدافئة” – يقصد بها البحر الأبيض المتوسط –
بالمقابل كان العالم الإسلامي يعيش مراحل متقدمة من التدهور على كافة الأصعدة ( السياسية، العسكرية، الإقتصادية، الإجتماعية )، فقد كانت الدول الإسلامية تعاني من الإحتلال الأوروبي لمناطقها ولعل ذلك راجع لضعف أكبر قوى إسلامية أنذاك ” الدولة العثمانية “، ومع سبعينيات القرن التاسع عشر ظهرت قوى أوروبية جديدة وهي ألمانيا وذلك بعد أن نجحت في تحقيق وحدتها مطلع سنة 1871.
سياسة التوسع نحو الشرق
في ظل الأوضاع السابقة سعت ألمانيا لإيجاد مكانة بارزة لها بين القوى الأوروبية الكبرى، خصوصا بعد نهضتها الإقتصادية التي أدت إلى تحقيق فائض في الإنتاج الصناعي، الذي نتج عنه تكدس رؤوس الأموال والتضخم المالي، فقد وجد الألمان أنفسهم مجبرين على تصريف هذه الأموال بالبحث عن أسواق خارجية التي لايمكن الحصول عليها إلا عن طريق السيطرة على أراض جديدة إلا أنهم رأو استحالة الحصول على هذه الأراضي عن طريق الإستعمار فقد وجدت أن بريطانيا وفرنسا قد سبقتها إلى السيطرة على جميع الأراضي الصالحة للإستعمار، وفي هذه الظرفية وجد الإمبراطور الألماني الحل في إتباع سياسة سلمية مع الدولة العثمانية التي كانت تسيطر على ما تبقى على المناطق التي تمكن لألمانيا تحقيق أغراضها الإقتصادية ولعل من أهم الأسباب التي شجعت الإمبراطور الألماني لإتباع هذه السياسة السلمية هي:
1- تجنب تكاليف حملات العسكرية
2- تجنب معارضة القوى الأوروبية – بالخصوص بريطانيا وفرنسا – للتغلل الألماني في حالة عدم قيامها بأي حملة عسكرية
3- ميل السلطان العثماني عبد الحميد الثاني ( 1842م – 1918م) لألمانيا وإعجابه بالشخصية الألمانية خصوصا وأنها القوى الأوروبية الوحيدة التي لم تناصبه العداء ولم تتدخل في القضايا الداخلية لبلاده.
مظاهر التقارب الألماني العثماني
سعيا منها لتحقيق مآربها قام الإمبراطور الألماني ” ويليهيم الثاني “(1859م – 1941م) ” Wilhelm II ” بعقد صداقة مع السلطان العثماني ” عبد الحميد الثاني ” ونتج عن هذه الصداقة تطور العلاقات السياسية والعسكرية والإقتصادية بين الطرفين، ويظهر جليا هذا التقارب بعد زيارتي الإمبراطور الألماني لإسطمبول سنتي 1889 م و 1899م وعلى إثر هذا التقارب وعلى هامش زيارته لإحدى الكنائس في القدس بفلسطين أكد ” ويليهيم الثاني ” صداقته ل” عبد الحميد الثاني ” ولجميع المسلمين بعد قوله :
وليوقن صاحب الشوكة عبد الحميد خان الثاني والثلاث مئة مليون من المسلمين المرتبطين بمقام خلافته العظمى …. أن إمبراطور ألمانيا سيبقى محبا لهم إلى الأبد .
– نلحظ في هذه المقولة إعتراف ضمني للإمبراطور الألماني بخلافة ” عبد الحميد الثاني ” للمسلمين .
ولإظهار نواياه الحسنة من هذه الصداقة قام ” ويليهيم الثاني ” بسحب أساطيله من جزيرة كريت أثناء الحصار الأوروبي عليها، ورفض توقيع على الإنذار المقدم من الدول الأوروبية على الدولة العثمانية في قضية الجزيرة السالفة الذكر، لكن بالمقابل حصل الإمبراطور الألماني سنة 1901م على إمتياز مد خط سكة حديد برلين – بغداد و هو الخط الذي يمكنه من إختراق منطقة الأناضول وبلاد الرافدين.
كان ” عبد الحميد الثاني ” يرى في ألمانيا السند الذي يمكنه من الصمود أمام الدسائس الأوروبية الرامية لإسقاط حكمه ولتقويض دولته خصوصا بعد تزوده بالأسلحة الألمانية الحديثة و إستقدام خبراء عسكريين ألمان لتدريب الجيش العثماني.

موقف القوى الأوروبية من التقارب الألماني العثماني
أحدث هذا التقارب حالة من القلق والذعر أوساط القوى الأوروبية التي كانت تسعى إلى إضعاف الدولة العثمانية ومن ثم إقتسام ممتلكاتها، فقد عارضت بريطانيا وفرنسا وروسيا هذا التحالف برفض أبرز مظاهره واتخاذ موقف سلبي من خط برلين – بغداد فقد رأى البريطانيون أن هذا الخط سيجعل ألمانيا منافسا صعبا لها في منطقة الحجاز والمشرق العربي وسيهدد طريقها إلى مستعمراتها في آسيا الشرقية، هذا الأمر دفع بريطانيا لتوقيع معاهدة مع حاكمها ” الشيخ مبارك الصباح “(1840م – 1915م) ألزمته فيها عدم التصرف في أي شأن من الشؤون إلا بموافقتها وأن لا يبيع أو يؤجر أراضيه إلا للحكومة البريطانية وذلك لقطع الطريق أمام مد خط برلين -بغداد إلى الخليج الفارسي.